الفـــــــــــــاروق عمر بن الخطاب .. خلقه وصفاته
*****************************************
إن مفتاح شخصية الفاروق إيمانه بالله تعالى والاستعداد لليوم الآخر وكان هذا الإيمان سبباً في التوازن المدهش والخلاّب في شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولذلك لم تطغ قوته على عدالته، وسلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه وأصبح مستحقاً لتأييد الله وعونه، فقد حقق شروط كلمة التوحيد، من العلم واليقين، والقبول، والانقياد، والإخلاص والمحبة وكان على فهم صحيح لحقيقة الإيمان وكلمة التوحيد فظهرت آثار إيمانه العميق في حياته والتي من أهمها:
شدة خوفه من الله تعالى بمحاسبته لنفسه
======================
كان رضي الله عنه يقول: أكثروا من ذكر النار، فإن حرّها شديد ، وقعرها بعيد ، ومقامها حديد.
: جاء ذات يوم أعرابي ، فوقف عنده وقال
يا عمر الخير جزيت الجنة *** جهِّز بُنيَّاتي وأمهنَّه *** أقسـم باللـه لتـفعـلـنه
قال: فإن لم أفعل ماذا يكون يا أعرابي؟
قال: أقسـم أنـي سـوف أمضـينه
قال: فإن مضيت ماذا يكون يا أعرابي؟
قال: والله عن حالي لتسألنه *** ثمّ تكون المسألات ثمّه
والواقف المسئول بينهنّه *** إما إلى نار وإما جنة
فبكى عمر حتى اخضلت لحيته بدموعه ، ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم (يوم القيامة) ، لا لشعره ، والله ما أملك قميصاً غيره.
وهكذا بكى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بكاءً شديداً تأثراً بشعر ذلك الأعرابي الذي ذكّره بموقف الحساب يوم القيامة ، مع أنه لا يذكر أنه ظلم أحداً من الناس ، ولكنه لعظيم خشيته وشدة خوفه من الله تعالى تنهمر دموعه أمام كل من يذكّره بيوم القيامة.
وكان رضي الله عنه من شدة خوفه من الله تعالى يحاسب نفسه حساباً عسيراً ، فإذا خيل إليه أنه أخطأ في حق أحد طلبه ، وأمره بأن يقتص منه ، فكان يقبل على الناس يسألهم عن حاجاتهم ، فإذا أفضوا إليه بها قضاها ، ولكنه ينهاهم عن أن يشغلوه بالشكاوى الخاصة إذا تفرغ لأمر عام.
فذات يوم كان مشغولاً ببعض الأمور العامة ، فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ، انطلق معي فأعني على فلان ، فإنه ظلمني.
فرفع عمر الدرة ، فخفق بها رأس الرجل ، وقال: تتركون عمر وهو مقبل عليكم ، حتى إذا اشتغل بأمور المسلمين أتيتموه ، فانصرف الرجل متذمراً.
فقال عمر علَيَّ بالرجل: فلما أعادوه ألقى عمر بالدرة إليه ، وقال: أمسك الدرة واخفقني كما خفقتك.
قال الرجل: لا يا أمير المؤمنين ، أدعها لله ولك.
قال عمر: ليس كذلك ، إما أن تدعها لله وإرادة ما عنده من الثواب ، أو تردها عليّ ، فأعلم ذلك.
فقال الرجل: أدعها لله يا أمير المؤمنين. وانصرف الرجل
أما عمر فقد مشى حتى دخل بيته ومعه بعض الناس منهم الأحنف بن قيس الذي حدثنا عمّا رأى: ... فافتتح الصلاة فصلى ركعتين ثم جلس ، فقال: يا ابن الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الله ، وكنت ضالاً فهداك الله ، وكنت ذليلاً فأعزك الله ، ثم حملك على رقاب المسلمين ، فجاء رجل يستعديك ، فضربته ، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟ فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه خير أهل الأرض.
وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مر عمر رضي الله عنه وأنا في السوق ، وهو مار في حاجة ، ومعه الدرة ، فقال: هكذا أمِطْ (تنحى) عن الطريق يا سلمة ، قال: ثم خفقني بها خفقة فما أصاب إلا طرف ثوبي ، فأمطت عن الطريق.
فسكت عني حتى كان في العام المقبل ، فلقيني في السوق ، فقال: يا سلمة أردت الحج العام؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فأخذ بيدي ، فما فارقت يدي يده حتى دخل بيته ، فأخرج كيساً في ست مائة درهم فقال: يا سلمة استعن بهذه واعلم أنها من الخفقة التي خفقتك عام أول ، قلت: والله يا أمير المؤمنين ما ذكرتها حتى ذكرتنيها . قال: والله ما نسيتها بعد.
وكان رضي الله عنه يقول في محاسبة النفس ومراقبتها: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا ، وتهيئوا للعرض الأكبر : يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ "ا
وكان من شدة خشيته لله ومحاسبته لنفسه يقول: " لو مات جدْي (ذكر الماعز) بطف الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر "ا
وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قتب يعدو ، فقلت: يا أمير المؤمنين أين تذهب؟ قال: بعير ندَّ من إبل الصدقة أطلبه ، فقلت: أذللت الخلفاء بعدك ، فقال: يا أبا الحسن لا تلمني فوالذي بعث محمداً بالنبوة لو أن عناقاً (أنثى الماعز) أخذت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة.
وعن أبي سلامة قال: انتهيت إلى عمر وهو يضرب رجالاً ونساء في الحرم على حوض يتوضئون منه ، حتى فرق بينهم ، ثم قال: يا فلان ، قلت: لبيك ، قال لا لبيك ولا سعديك ، ألم آمرك أن تتخذ حياضاً للرجال وحياضاً للنساء؟ قال: ثم اندفع . فلقيه علي رضي الله عنه فقال: أخاف أن أكون هلكت ، قال: وما أهلكك؟ قال ضربت رجالاً ونساءً في حرم الله عز وجل ، قال علي: يا أمير المؤمنين أنت راع من الرعاة ، فإن كنت على نصح وإصلاح فلن يعاقبك الله ، وإن كنت ضربتهم على غش فأنت الظالم.
وعن الحسن البصري أنه قال: بينما عمر رضي الله عنه يجول في سكك المدينة إذ عرضت له هذه الآية وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فانطلق إلى أبي بن كعب فدخل عليه بيته وهو جالس على وسادة فانتزعها أبي من تحته وقال: دونكها يا أمير المؤمنين ، فنبذها عمر برجله وجلس ، فقرأ عليه هذه الآية وقال: أخشى أن أكون أنا صاحب الآية أوذي المؤمنين ، قال أبي: لا تستطيع إلا أن تعاهد رعيتك فتأمر وتنهى ، فقال عمر: قد قلت والله أعلم.
وكان عمر رضي الله عنه ربما توقد النار ثم يدلي يده فيها ، ثم يقول: " ابن الخطاب هل لك على هذا صبر؟ "ا
ومواقفه في هذا الباب كثيرة جداً .. نكتفي منها بهذا القدر.
***********************************************************************
زهده
===
فهم عمر رضي الله عنه من خلال معايشته للقرآن الكريم ومصاحبته للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء وعليه فإنها مزرعة للآخرة ، ولذلك تحرّر من سيطرة الدنيا بزخارفها ، وزينتها ، وبريقها وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهراً وباطناً ، وكان وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق:
أ- اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء ، أو عابري سبيل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل "ا
ب- وأن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى.
إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ) / رواه الترمذي ، وقال : ( الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه ، أو عالماً ، أو متعلماً ) / رواه الترمذي.
ج- وأن عمرها قد قارب على الانتهاء ، إذ يقول صلى الله عليه وسلم : ( بعثتُ أنا والساعة كهاتين ) وأشار بالسبّابة والوسطى / رواه مسلم
د- وأن الآخرة هي الباقية ، وهي دار القرار ، كما قال مؤمن آل فرعون: ( يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الأخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [غافر،آية:39، 40]
كانت الحقائق قد استقرت في قلب عمر فترفع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها وإليك شيئاً من مواقفه التي تدل على زهده في هذه الفانية.
فعن أبي الأشهب قال: مرّ عمر رضي الله عنه على مزبلة فاحتبس عندها ، فكأن أصحابه تأذوا بها ، فقال: هذه دنياكم التي تحرصون عليها ، وتبكون عليها / كتاب الزهد للإمام أحمد
وعن سالم بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب كان يقول: والله ما نعبأ بلذات العيش أن نأمر بصغار المعزى أن تسمط (نتف صوف الجدي بالماء الحار ) لنا، ونأمر بلباب الخبز فيخبز لنا ، ونأمر بالزبيب فينبذ لنا في الأسعان (قربة) حتى إذا صار مثل عين اليعقوب ، أكلنا هذا وشربنا هذا ، ولكنا نريد أن نستبقي طيباتنا ، لأنا سمعنا الله يقول: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا [الأحقاف:20]ا
وعن أبي عمران الجوني قال: قال عمر بن الخطاب : لنحن أعلم بلين الطعام من كثير من آكليه ، ولكنا ندعه ليوم يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا [الحج:2]ا
وقد خطب رضي الله عنه الناس وهو خليفة ، وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة ، وطاف ببيت الله الحرام وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة ، إحداهن بأدم أحمر ، وأبطأ على الناس يوم الجمعة ، ثم خرج فاعتذر إليهم في احتباسه ، وقال: إنما حبسني غسل ثوبي هذا ، كان يغسل ، ولم يكن لي ثوب غيره.
وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاجاً من المدينة إلى مكة ، إلى أن رجعنا ، فما ضرب له فسطاطاً (بيت من شعر) ، ولا خباء ، كان يلقى الكساء والنطع (بساط) على الشجرة فيستظل تحته.
هذا هو أمير المؤمنين الذي يسوس رعية من المشرق والمغرب يجلس على التراب وتحته رداءٌ كأنه أدنى الرعية ، أو من عامّة الناس ، ودخلت عليه مرة حفصة ابنته وأم المؤمنين رضي الله عنها وقد رأت ما هو فيه من شدة العيش والزهد الظاهر عليه فقالت: إن الله أكثر من الخير ، وأوسع عليك من الرزق ، فلو أكلت طعاماً أطيب من ذلك ، ولبست ثياباً ألين من ثوبك؟ قال: سأخصمك إلى نفسك (أي سأجعلك حكماً على نفسك) ، فذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يلقى من شدة العيش ، فلم يزل يُذكرها ما كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت معه حتى أبكاها ، ثم قال: إنه كان لي صاحبان سلكا طريقاً ، فإن سلكت الشديد ، لعلي أن أدرك معهما عيشهما الرخي.
لقد بسطت الدنيا بين يدي عمر رضي الله عنه وتحت قدميه ، وفتحت بلاد الدنيا في عهده ، وأقبلت إليه الدنيا راغمة ، فما طرف لها بعين ، ولا اهتز لها قلبه ، بل كان كل سعادته ، في إعزاز دين الله ، وخضد شوكة المشركين ، فكان الزهد صفة بارزة في شخصية الفاروق.
يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: والله ما كان عمر بن الخطاب بأقدامنا هجرة ، وقد عرفت بأي شيء فضلنا ، كان أزهدنا في الدني