بقلم : د. أحمد خالد توفيق
إن لغرائز الحيوان هيبة واحتراماً في نفوسنا نحن البشر الذين أوهنت الحضارة حواسنا
الحيوان يرى أفضل منا ويشم أفضل منا ويسمع أفضل منا.. أما الأهم فهو أن الحيوان يملك حاسة الخطر.. الحاسة التي لا نملك منها سوى النذر اليسير أو لا نملكها على الأطلاق
*******
كنت طالباً قروياً بسيطاً أعيش في القاهرة, المدينة الصاخبة القاسية التي لا ترحم..، كانت الحرب قد انتهت منذ أعوام واستسلمت ألمانيا وكانت هناك حركات ثورية تغلي واضطربات وحركات كبار..، لكني كنت بعيداً عن كل هذا في قوقعتي الخاصة.. كان رفاقي في الجامعة يثرثرون ويرافقون الفتيات ويتأنقون.. لكني كنت منزوياً في حيائي الريفي الطبيعي والأمل الخافت الذي لا ينفك يراودني: ستفخرون يوماً أنكم عرفتموني
أي ضير في أن تسخر الفتيات من حذائي؟.. لقد سخرت فتاة من بنيامين فرانكلين يوماً ما وأطلقت عليه الكائن العجيب, ثم تلبث أن قبلت بكل فخار أن تكون زوجته حين صار المصلح والعالم الأمريكي الأشهر
وأي ضير في أن يتهكم الشباب على ثيابي؟.. ان بيتهوفن كان كريه الرائحة قليل الاستحمام.. والكسندر دوماس كان قبيحاً كقرد.. وحتى اينشتاين اتهمه مدرسوه بالتخلف العقلي
كنت واثقاً أنني أصنع نفسي.. كنت أجد بين صفحات الكتب ما ينسيني عذاب اللحظة.. لكن شعوراً واحد كان يمزق فؤادي
.. الوحدة
الوحدة المريرة التي لن ولم أتحملها بأي حال.. كنت أعيش في غرفة حقيرة في أحد أحياء القاهرة الشعبية.. وكانت بعض أسر العمال تسكن جواري, فلم يمنعني هذا من ادراك أية متعة يعيشها هؤلاء البؤساء بين أسرهم
صوت الضحكات.. لعب الأطفال.. الشجار.. عبارات السباب.. كل هذا كان يمزقني تمزيقاً, وحتى قشور البطيخ الملقاة في الزقاق كانت تؤلمني.. فهي كميات أكبر بكثير مما يستطيع شخص واحد أن يلتهمه
*******
كنت أحيا هذا الجحيم.. وبدأت أفهم لماذا يتزوج البشر.. انه الضمان الوحيد كي تجد انسانا ملكك لا يتركك وحيداً أبداً
كنت غارقاً في لجة الكآبة حين قابلت "جمعة"..! كان صغيراً بحجم قبضة اليد.. قذراً كمصرف للمجاري.. شرساً كالنمر.. جائع كسمكة وليدة.. تعساً كالشيطان.. وحيداً مثلي
هنالك أمام بابي وجدته.. مجرد قط وليد منبوذ يرتجف برداً وجوعاً ويموء بتلك الطريقة الصامتة الواهنة التي تجيدها القطط وتسلب بها قلوبنا
حملته الى الحجرة.. ووضعته في سلة الخبز الفارغة التي أرسلتها لي الحاجة من قريتي، وأحضرت له بعض الفاصوليا التي كنت قد طهوتها لنفسي فأعرض عنها في اشمئزاز مبدياً رأياً لا بأس به في طهوي
فتحت له علبة من السمك المحفوظ وشرعت أضع أمامه قطعاً منها, فذاقها بلسانه أولاً.. ثم بدأ يأكل
حين انتهى راح يلعق أسنانه بلسانه, فحملته في قبضتي الى صنبور الماء وغسلت جسده وسط محاولات افلاته المضحكة وموائه الرفيع
من حسن الحظ أننا كنا في يوليو لأن غسيل القطط الصغيرة تحت الصنبور خطأ قاتل!. ثم جففته وشرعت أرمق شعره الثائر المحتشد في أشواك.. وكان هذا هو الحب الأول في حياتي
أسميته جمعة لأنني كنت مثل روبنسون كروز وحيداً في جزيرة قصية الى أن وجد صحبة, وهذه الصحبة كانت بدائياً جاءه في يوم جمعة, فأسماه في بنفس الاسم
*******
لقد غيّر جمعة حياتي تماماً
صار لي هدفاً أحيا من أجله وأعود لداري من أجله.. كان يرقد على قدمي حتى أنام.. ويلعق وجهي في شعاع الفجر الأول.. ويرتمي على ظهره معايناً خفي.., ثم يتربع على مكتبي الحقير أمامي اذا أدرس مُصدراً ذلك الهرير الرائع المنتظم
الواقع أنني كنت أملك يقيناً لا يتزعزع أن هذا القط هو أخي.. فقط هو مصاب بعيب خلقي بسيط يجعله يمشي على أربع ويأكل السمك ويموء, ولابد لي أن أقبله كما هو لأني أحبه
ظلت الأيام تدور بنا.. وفي الأوقات القليلة التي كنت أفارقه فيها الى قريتي كنت أعطي مفتاح الحجرة لأمال ابنة الجيران كي تطعمه
كان هذا في الفترة السابقة للقائي بـ داغر
*******
اسمه عجيب.. أعلم ذلك.. لكن وجهه أكثر غرابة.. فهو شاحب اللون رمادي العينين تتطاير خصلات شعره الأبيض في الهواء.. ضخم.. مهيب.. يقولون أنه من أصل تركي يبرز مظهره غير المألوف واسمه العجيب.. وكان من أوائل الشباب الرفيع الذي تخلي عن الطربوش.. وبرغم أن كثيرين قد حذوا حذوه في تلك الأيام في أواخر الأربعينات الا أنه كان أولهم
قابلته في الجامعة يدرس الفلسفة.. كان على النقيض مني في أي شئ.. ولن أشرح كيف.. لكنه كان شخصية مغناطيسية يلعب ذات الدور التي تلعبه البلورة الصغيرة حين تعلقها في سائل مُشبع.., انه مركز تبلور.. وآراؤه وكلماته تغدو هي الرأي العام بعد أيام من قولها
من اللحظة الأولى أدركت أنه لن يكون صديقي.. لكن داغر أصر على العكس.. وكان له ما أراد