في القرن السادس عشر غزا الأسبان إمبراطورية الانكا فقتلوا الآلاف و سرقوا الثروات الطائلة و اجبروا الشعب على التخلي عن ثقافته و تقاليده و خلال فترة قصيرة سقطت جميع مدن الإمبراطورية بيد الغزاة إلا واحدة احتجبت خلف الغيوم و الأدغال الكثيفة فتحولت إلى أسطورة بحث عنها الطامعون بالذهب لقرون بدون جدوى , لكن عام 1911 كان العالم على موعد مع صبي صغير من أحفاد الانكا ليميط اللثام عن سر المدينة الضائعة التي تحولت الى واحدة من أغرب المدن في تاريخ البشرية.
مدينة معلقة تقبع بين السحاب على ارتفاع 2430 متر
****************************************
لا احد يعلم على وجه الدقة من أين أتى الانكا (Inca ) فقد ظهروا فجأة في القرن الثاني عشر الميلادي ليؤسسوا مملكة قوية مركزها البيرو و عاصمتها مدينة كوزكو التي تقع على ارتفاع 3980 متر (1) فوق مستوى سطح البحر , ثم توسعوا تدريجيا ليحكموا إمبراطورية مترامية الإطراف تمتد من جنوب كولومبيا شمالا و حتى شيلي و الأرجنتين جنوبا و تعتبر السيطرة على جميع هذه الأراضي الشاسعة أعجوبة بحد ذاتها إذا ما علمنا بأن الانكا لم يستعملوا العجلات و الخيول و لم يعرفوها (2) و لكنهم عوضا عن ذلك قاموا بإنشاء شبكة طويلة من الطرق تمتد لمسافة 3250 ميل لتربط مقاطعات الإمبراطورية الأربعة مع بعضها و تسهل نقل المسافرين و البضائع و أوامر الحكومة بسرعة , و الى جانب تطورهم في مجال الإدارة و البناء فقد تميز الانكا أيضا بنظامهم الاجتماعي القائم على المساواة فالأراضي و الموارد الطبيعية كانت مملوكة للدولة و توزع على أفراد الشعب للعمل بها مقابل دفع الضرائب و هو نظام اقرب ما يكون إلى الاشتراكية لكن هذا لا يعني ان الانكا لم يعرفوا الفوارق الطبقية فقد كانت هناك طبقة عليا غنية من النبلاء و رجال الدين.
إمبراطورية الانكا كانت تحفل بالعجائب و الأسرار و ربما يكون سقوط الإمبراطورية السريع و المدوي هو بحد ذاته اكثر هذه العجائب اثارة للدهشة , فحفنة من الغزاة الاسبان يبلغ عددهم 168 رجلا مع 28 حصانا و مدفع واحد استطاعوا هزيمة جيوش الانكا الجرارة التي تقدر بعشرات الالاف و تمكنوا خلال فترة قصيرة بقيادة فرانشسكو بيزارو (Francisco Pizarro ) من احتلال اغلب اراضي الامبراطورية بعد ان اسروا الامبراطور و قتلوه , و مع ان تفاصيل الغزو هي أوسع من ان نتناولها في هذه المقالة الموجزة الا انه ينبغي ان ننوه بأن بعض الأحداث المدمرة و المأساوية التي تواكب حدوثها مع وصول الغزاة الاسبان كان لها دور كبير في اضعاف الانكا و هزيمتهم و لعل اهمها و اكثرها تأثيرا هو وباء الجدري (3) الذي انتشر في الإمبراطورية و حصد نسبة كبيرة من السكان , كما تصادف وصول الغزاة مع حرب اهلية دموية بين اثنين من أمراء الانكا بسبب النزاع حول عرش الامبراطورية , كما ان اسلحة الاسبان النارية و تحالف العديد من القبائل المحلية المعادية للأنكا معهم لعبت دورا كبيرا في هزيمة جموع الانكا المسلحين بالفؤؤس و أدوات الحرب البسيطة و الذين عجزوا من التغلب على تكتيكات الاسبان العسكرية الحديثة.
سيطر الاسبان خلال سنوات قليلة على اغلب اجزاء امبراطورية الانكا و عمدوا منذ بداية احتلالهم الى تدمير ثقافة و مقدسات الانكا فاجبروهم على تغيير دينهم و لغتهم و ارسلوا رجالهم للعمل في مناجم استخراج المعادن الثمينة التي اخذت السفن الاسبانية تنقلها بالأطنان الى بلاط شارلز الاول في اسبانيا , كان على كل عائلة من الانكا ارسال احد افرادها للعمل في مناجم الموت حيث كان في العادة يفارق الحياة خلال سنة واحدة نتيجة سوء التغذية و الأمراض و العمل المضني و عند موته كان على عائلته إرسال فرد ثاني ليحل محله , لقد كان هم الغزاة الوحيد هو الذهب و الفضة و لم يهتموا ابدا لحياة شعب الانكا فعاملوا الناس بقسوة منقطعة النظير و كانوا السبب الرئيسي في انخفاض عدد السكان خلال سنوات قليلة بنحو 60 – 90 % .
خلال العقود التي تلت سقوط إمبراطورية الانكا و انحلالها انتشرت الكثير من القصص و الأساطير حول الملاذ الأخير للأنكا في المدن الضائعة , و قد حاول الأسبان و غيرهم من الطامعين بالكنوز الوصول الى هذه المدن الأسطورية لكن بدون جدوى حتى ظن الكثيرون بأنها مجرد خرافات لا أساس لها من الصحة , لكن أحفاد الانكا الساكنين في الوادي المقدس (Urubamba Valley ) كانوا يعلمون بأنها حقيقة و قد كتموا سرها لقرابة الأربعة قرون حتى عام 1911 عندما قام صبي محلي في الحادية عشر من العمر بأرشاد احد الباحثين الأمريكان و اسمه هيرام بنغهام الى أطلال ماشو بيشو (Machu Picchu ) الواقعة على ارتفاع 2430 متر فوق قمة احد الجبال المحيطة بالوادي المقدس و قد كانت المدينة عند اكتشافها مغطاة بالكامل بالأحراش و الأدغال التي يرجع لها الفضل في اخفائها عن العيون لقرون طويلة رغم مسافة الخمسين ميلا القصيرة التي تفصلها عن عاصمة الانكا كازكو و التي اصبحت فيما بعد مقر حكومة الاسبان , و في عام 1912 عاد بنغهام الى المدينة مرة اخرى مع بعثة تنقيب ممولة من جامعة يايل الامريكية و تمكن من العثور على الكثير من القطع الاثرية التي نقلها معه الى الولايات المتحدة ثم تحولت فيما بعد الى محل نزاع بين الحكومة البيروية التي تدعي بأن بنغهام اخذ القطع الاثرية على سبيل الاستعارة و بين جامعة يايل التي ترفض اعادة القطع و تدعي بأنها من حقها و ان بنغهام اخذها بموافقة الحكومة البيروية.