استخلاف الصدّيق للفاروق
===============
لما اشتد المرض بأبي بكر جمع الناس إليه فقال: " إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي ، وحل عنكم عقدتي ، ورد عليكم أمركم فأمروا عليكم من أحببتم فإنكم إن أمرتم في حياتي كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي "ا
وتشاور الصحابة رضي الله عنهم ، وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية ، لذا رجعوا إليه ، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك ، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده.
فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني. فقال أبو بكر: وإن ؟ فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه.
ثم دعا عثمان بن عفان. فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبر به ، فقال: على ذلك يا أبا عبد الله. فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته ، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عدتك.
ثم دعا أسيد بن حضير فقال له: مثل ذلك ، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك يرضى للرضا ، ويسخط للسخط ، والذي يسر خير من الذي يعلن ، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.
وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين ، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن عبيد الله خاف من شدته فقال لأبي بكر: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني ، أبالله تخوفونني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم أقول اللهم استخلفت عليهم خير أهلك.
وبين لهم سبب غلظة عمر وشدته فقال: " ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه "ا
ثم كتب عهداً مكتوباً يقرأ على الناس في المدينة وفي الأنصار عن طريق أمراء الأجناد فكان نص العهد : "بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها ، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها ، حيث يؤمن الكافر ، ويوقن الفاجر ، ويصدق الكاذب ، إني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً ، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه ، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب ، والخير أردت ولا أعلم الغيب ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) – [الشعراء:227]ا
إن عمر هو نصح أبي بكر الأخير للأمة ، فقد أبصر الدنيا مقبلة تتهادى وفي قومه فاقة قديمة يعرفها ، فإذا ما أطلوا لها استشرفوا شهواتها ، فنكلت بهم واستبدت ، وذاك ما حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم "ا
لقد أبصر أبو بكر الداء فأتى لهم رضي الله عنه بدواء ناجح … جبل شاهق ، إذا ما رأته الدنيا أيست وولت عنهم مدبرة ، إنه الرجل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " أيها يا بن الخطاب ، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك "ا
هذا وقد أخبر عمر بن الخطاب بخطواته القادمة فقد دخل عليه عمر فعرفه أبو بكر بما عزم فأبى أن يقبل ، فتهدده أبو بكر بالسيف فما كان أمام عمر إلا أن يقبل.
وأرد الصديق أن يبلغ الناس بلسانه واعياً مدركاً حتى لا يحصل أي لبس فأشرف أبو بكر على الناس وقال لهم: أترضون بمن استخلف عليكم ؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ، ولا وليت ذا قرابة ، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا: سمعنا وأطعنا.
وتوجه الصديق بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه ، وهو يقول: "اللهم وليته بغير أمر نبيك ، ولم أرد بذلك إلا صلاحهم ، وخفت عليهم الفتنة ، واجتهدت لهم رأيي ، فولَّيت عليهم خيرهم ، وأحرصهم على ما أرشدهم ، وقد حضرني من أمرك ما حضر ، فأخلفني فيهم فهم عبادك"ا
وكلف أبو بكر عثمان رضي الله عنه: بأن يتولى قراءة العهد على الناس ، وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر بعد أن ختمه لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء الأمر ، دون أي آثار سلبية.
وقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به ، فبعد أن قرأ العهد على الناس ورضوا به أقبلوا عليه وبايعوه.
واختلى الصديق بالفاروق وأوصاه بمجموعة من التوصيات لإخلاء ذمته من أي شيء ، حتى يمضي إلى ربه خالياً من أي تبعة بعد أن بذل قصارى جهده واجتهاده ، وقد جاء في الوصية: " اتق الله ياعمر ، واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل ، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار ، وأنه لا يقبل نافلة حتى تُؤدى فريضة ، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق غداً أن يكون ثقيلاً ، وإنما خفّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل غداً أن يكون خفيفاً ، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه ، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف أن لا ألحق بهم ، وإن الله تعالى ذكر أهل النار ، فذكرهم بأسوأ أعمالهم ، وردّ عليهم أحسنه ، فإذا ذكرتهم ، قلت: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء ليكون العبد راغباً راهباً ، لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت ولست تُعجزه "ا
وباشر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعماله بصفته خليفة للمسلمين فور وفاة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
***********************************************************************
خطبة الفاروق لما تولى الخلافة
==================
اختلف الرواة في أول خطبة خطبها الفاروق عمر، فقال بعضهم ، إنه صعد المنبر فقال: " اللهم إني شديد فليِّنِّي ، وإني ضعيف فقوّني ، وإني بخيل فسخِّني "ا
وروي إن أول خطبة كانت قوله: " إن الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم بعد صاحبيّ ، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني ، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن أهل الجزء – يعني الكفاية – والأمانة ، والله لئن أحسنوا لأحسنن إليهم ، ولئن أساءوا لأنكلنّ بهم " ، فقال من شهد خطبته ورواها عنه: فوالله ما زاد على ذلك حتى فارق الدنيا.
وروي أنه لما ولي الخلافة صعد المنبر وهمّ أن يجلس مكان أبي بكر فقال: " ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكر" . فنزل مرقاة ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " اقرؤوا القرآن تعرفوا به ، واعملوا به تكونوا من أهله ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وتزيَّنوا للعرض الأكبر يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية ، إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم ؛ إن استغنيت عففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف "ا
وتوجد روايات أخري.
ويمكن الجمع بين هذه الروايات إذا افترضنا أن عمر ألقى خطبته أمام جمع من الحاضرين فحفظ بعضهم منها جزءًا فرواه ، وحفظ آخر جزءًا غيره فذكره
***********************************************************************
رد سبايا العرب
=========
كان أول قرار اتخذه عمر في دولته رد سبايا أهل الردة إلى عشائرهم حيث قال: " كرهت أن يكون السبي سنة في العرب " ، وهذه الخطوة الجريئة ساهمت في شعور العرب جميعاً أنهم أمام شريعة الله سواء ، وأنه لا فضل لقبيلة على قبيلة إلا بحسن بلائها وما تقدمه من خدمات للإسلام والمسلمين ، وتلت تلك الخطوة خطوة أخرى هي السماح لمن ظهرت توبتهم من أهل الردة بالاشتراك في الحروب ضد أعداء الإسلام ، وقد أثبتوا شجاعة في الحرب وصبراً عند اللقاء ، ووفاءً للدولة لا يعدله وفاء.
***********************************************************************
شكل ومميزات الخلافة في عهد عمر بن الخطاب واحوال الأمة الإسلامية في عهده