تابع : شكل ومميزات الخلافة في عهد عمر بن الخطاب وأحوال الأمة الإسلامية في عهده
********************************************************
حرية العقيدة الدينية
===========
إن دين الإسلام لم يكره أحدًا من الناس على اعتناقه ، بل دعا إلى التفكر والتأمل في كون الله ومخلوقاته وفي هذا الدين وأمر اتباعه أن يجادلوا الناس بالتي هي أحسن ، قال تعالى : ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) - [البقرة:256]ا
وقال تعالى : ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ ) - [الشورى:48]ا
وقال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) - [النحل:125]ا
وقال تعالى : ( وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) – [العنكبوت:46]ا
والآيات في ذلك كثيرة ولذلك نجد الفاروق في دولته حرص على حماية الحرية الدينية ونلاحظ بأن عمر سار على هدي النبي والخليفة الراشد أبي بكر في هذا الباب فقد: أقرّ أهل الكتاب على دينهم ؛ وأخذ منهم الجزية وعقد معهم المعاهدات ، وخططت معابدهم ولم تهدم وتركت على حالها وذلك لقول الله تعالى: ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ) [الحج:40]ا
فحركة الفتوحات في عهد الفاروق التي قام بها الصحابة تشهد على احترام الإسلام للأديان الأخرى ، وحرص القيادة العليا على عدم إكراه أحد في الدخول في الإسلام ، حتى إن الفاروق نفسه جاءته ذات يوم امرأة نصرانية عجوز كانت لها حاجة عنده فقال لها: أسلمي تسلمي ؛ إن الله بعث محمداً بالحق ، فقالت: أنا عجوز كبيرة ، والموت إليَّ أقرب ، فقضى حاجتها، ولكنه خشي أن يكون في مسلكه هذا ما ينطوي على استغلال حاجتها لمحاولة إكراهها على الإسلام ، فاستغفر الله مما فعل وقال: اللهم إني أرشدت ولم أكره.
وكان لعمر رضي الله عنه عبد نصراني اسمه (أشق) حدّث فقال: كنت عبداً نصرانياً لعمر ، فقال أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين ، لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم ، فأبيت ، فقال: (لا إكراه في الدين) ، فلما حضرته الوفاة أعتقني وقال: اذهب حيث شئت.
وقد كان أهل الكتاب يمارسون شعائر دينهم وطقوس عبادتهم في معابدهم وبيوتهم ، ولم يمنعهم أحد من ذلك لأن الشريعة الإسلامية حفظت لهم حق الحرية في الاعتقاد ، وقد أورد الطبري في العهد الذي كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيليا (القدس) ونص فيه على إعطاء الأمان لأهل إيلياء على أنفسهم وأموالهم وصلبانهم وكنائسهم ، وكتب والي عمر بمصر عمرو بن العاص لأهل مصر عهداً جاء فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم وأكد ذلك العهد بقوله: على ماضي هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين.
وقد اتفق الفقهاء على أن لأهل الذمة لهم ممارسة شعائرهم الدينية وأنهم لا يمنعون من ذلك مالم يظهروا ، فإن أرادوا ممارسة شعائرهم إعلاناً وجهراً كإخراجهم الصلبان يرون منعهم من ذلك في أمصار المسلمين ، وعدم منعهم في بلدانهم وقراهم.
***********************************************************************
حرية التنقل أو حرية الغدو والرواح للمسلمين
==========================
حرص الفاروق على هذه الحرية حرصاً شديداً ولكنه قيدها في بعض الحالات الاستثنائية التي استدعت ضرورة لذلك ، أما الحالات الاستثنائية التي جرى فيها تقييد حرية التنقل أو حرية المأوى فهي قليلة جداً ، ويكفينا أن نشير إلى الحالتين نظراً لأهميتها:
(1)
أمسك عمر كبار الصحابة في المدينة ومنعهم من الذهاب إلى الأقطار المفتوحة إلا بإذن منه أو لمهمة رسمية كتعيين بعضهم ولاة أو قادة للجيوش وذلك حتى يتمكن من أخذ مشورتهم والرجوع إليها فيما يصادفه من مشاكل في الحكم ويحول في الوقت نفسه دون وقوع أية فتنة أو انقسام في صفوف المسلمين في حال خروجهم للأمصار واستقرارهم فيها ، فقد كان من حكمته السياسية ومعرفته الدقيقة لطبائع الناس ونفسيتهم، أنه حصر كبار الصحابة في المدينة، وقال: أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد.
وكان يعتقد أنه إذا كان التساهل في هذا الشأن نجمت الفتنة في البلاد المفتوحة ، والتفَّ الناس حول الشخصيات المرموقة ، وثارت حولها الشبهات ، وكثرت القيادات والرايات ، وكان من أسباب الفوضى ، لقد خشي عمر رضي الله عنه من تعدد مراكز القوى السياسية والدينية داخل الدولة الإسلامية ، حيث يصبح لشخص هذا الصحابي الجليل أو ذاك هالة من الإجلال والاحترام على رأيه ، ترقى به إلى مستوى القرار الصادر من السلطة العامة ، وتجنباً لتعدد مراكز القوى ، وتشتت السلطة ، فقد رأى عمر إبقاء كبار الصحابة ، داخل المدينة يشاركونه في صناعة القرار ، ويتجنبون فوضى الاجتهاد الفردي ، ولولا هذا السند الشرعي لكان القرار الصادر عن عمر رضي الله عنه غير مجد ولا ملزم لافتقاده لسببه الشرعي الذي يسوغه؛ إذ التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.
* * * * * *
(2)
وأما الحالة الثانية فقد حصلت عندما أمر عمر بإجلاء نصارى نجران ويهود خيبر من قلب البلاد العربية إلى العراق والشام.
وسبب ذلك أن يهود خيبر ونصارى نجران لم يلتزموا بالعهود والشروط التي أبرموها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدّدوها مع الصديق ، فقد كانت مقرات يهود خيبر ونصارى نجران أوكاراً للدسائس والمكر فكان لا بد من إزالة تلك القلاع الشيطانية ، وإضعاف قواتهم.
أما بقية النصارى واليهود كأفراد فقد عاشوا في المجتمع المدني يتمتعون بكافة حقوقهم.
روى البيهقي في سننه وعبد الرزاق بن همام الصنعاني في مصنفه عن ابن المسيب وابن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب.
قال مالك ، قال ابن شهاب: ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى أتاه الثلج واليقين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ، فأجلى يهود خيبر.
قال تعالى : ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) - [التوبة:29]ا
وقال تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ) - [البقرة:193]ا