كان رضي الله عنه شديداً في محاسبة نفسه وأهله، فقد كان يعلم أن الأبصار مشرئبة نحوه وطامحة إليه ، وأنه لا جدوى إن قسا على نفسه ورتع أهله فحوسب عنهم في الآخرة ، ولم ترحمه ألسنة الخلائق في الدنيا فكان عمر إذا نهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: " إني نهيت الناس عن كذا وكذا ، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم فإن وقعتهم وقعوا ، وإن هبتم هابوا ، وإني والله لا أوتى برجل وقع فيما نهيت الناس عنه إلا أضعفت له العذاب ، لمكانه مني ، فمن شاء منكم أن يتقدم ، ومن شاء منكم أن يتأخر " ، وكان شديد المراقبة والمتابعة لتصرفات أولاده وأزواجه وأقاربه ، وهذه بعض المواقف :
المرافق العامة
=========
منع عمر رضي الله عنه أهله من الاستفادة من المرافق العامة التي رصدتها الدولة لفئة من الناس ، خوفاً من أن يحابي أهله به.
قال عبد الله بن عمر: اشتريت إبلاً أنجعتها الحمى فلما سمنت قدمت بها ، فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سماناً ، فقال: لمن هذه الإبل؟
قيل: لعبد الله بن عمر.
فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ … بخ … ابن أمير المؤمنين.
قال: ما هذه الإبل؟ قلت: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى ابتغى ما يبتغي المسلمون.
فقال: فيقولون ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين ، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين ، يا عبد الله بن عمر اغد إلى رأس مالك ، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين.
***********************************************************************
محاسبته لابنه عبد الله لما اشترى فيء جلولاء
==========================
قال عبد الله بن عمر: شهدت جلولاء – إحدى المعارك ببلاد فارس – فابتعت من المغنم بأربعين ألفاً.
فلما قدمت على عمر قال: أرأيت لو عرضت على النار فقيل لك: افتده ، أكنت مفتدياً به؟
قلت: والله ما من شيء يؤذي بك إلا كنت مفتدياً بك منه.
قال: كأني شاهد الناس حين تبايعوا فقالوا: عبد الله بن عمر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابن أمير المؤمنين وأحب الناس إليه ، وأنت كذلك فكان أن يرخصوا عليك أحب إليهم من أن يغلوا عليك ، وإني قاسم مسؤول وأنا معطيك أكثر ما ربح تاجر من قريش ، لك ربح الدرهم درهم.
ثم دعا التجار فابتاعوه منه بأربعمائة ألف درهم ، فدفع إلي ثمانين ألفاً وبعث بالباقي إلى سعد بن أبي وقاص ليقسمه.
***********************************************************************
منع جرِّ المنافع بسبب صلة القربى به
=====================
عن أسلم قال: خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري -وهو أمير البصرة حينئذ- فرحب بهما وسهل وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت ، ثم قال: بلى ، هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين وأسلفكماه فتبيعان به متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة ، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما الربح ، ففعلاً ، وكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال.
فلما قدما على عمر قال: أكل الجيش أسلف كما أسلفكما؟
فقالا: لا.
فقال عمر: أديا المال وربحه ، فأما عبد الله فسكت ، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين ، لو هلك المال أو نقص لضّمناه.
فقال: أديا المال.
فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله.
فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً ((شركة))ا
فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال.
قالوا: هو أول قراض في الإسلام.
***********************************************************************
تفضيل أسامة بن زيد على عبد الله بن عمر رضي الله عنهم في العطاء
=======================================
كان عمر رضي الله عنه يقسم المال ويفضل بين الناس على السابقة والنسب ففرض لأسامة بن زيد رضي الله عنه أربعة آلاف ، وفرض لعبد الله بن عمر رضي الله عنه ثلاثة آلاف.
فقال: يا أبت فرضت لأُسامة بن زيد أربعة آلاف ، وفرضت لي ثلاثة آلاف؟ فما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لك! وما كان له من الفضل ما لم يكن لي !ا
فقال عمر: إن أباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وهو كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك.
***********************************************************************
أنفقت عليك شهراً
===========
قال عاصم بن عمر: أرسل إليّ عمر يرفأ (مولاه) فأتيته - وهو جالسٌ في المسجد- فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ، ثم قال: أما بعد فإني لم أكن أرى شيئاً من هذا المال يحل لي قبل أن أليه إلا بحقه ، ثم ما كان أحرم علي منه حين وليته ، فعاد أمانتي ، وإني كنت أنفقت عليك من مال الله شهرًا ، فلست بزائدك عليه ، وإني أعطيت ثمرك بالعالية منحة ، فخذ ثمنه ، ثم ائت رجلاً من تجار قومك فكن إلى جانبه ، فإذا ابتاع شيئاً فاستشركه وأنفق عليك وعلى أهلك قال: فذهبت ففعلت.
***********************************************************************
خذه يا معيقيب فاجعله في بيت المال
=====================
قال معيقيب: أرسل إليَّ عمر رضي الله عنه مع الظهيرة ، فإذا هو في بيت يطالب ابنه عاصمًا … فقال لي: اتدري ما صنع هذا؟ إنه انطلق إلى العراق فأخبرهم أنه ابن أمير المؤمنين ، فانتفقهم ((سألهم النفقة)) ، فأعطوه آنية وفضة ومتاعاً، وسيفاً محلى.
فقال: عاصم: ما فعلتُ ، إنما قدمت على ناس من قومي ، فأعطوني هذا.
فقال عمر: خذه يا معيقيب، فاجعله في بيت المال.
فهذا مثل من التحري في المال الذي يكتسبه الإنسان عن طريق جاهه ، ومنصبه ، فحيث شعر أمير المؤمنين عمر بأنّ ابنه عاصمًا قد اكتسب هذا المال لكونه ابن أمير المؤمنين تحرج في إبقاء ذلك المال عنده لكونه اكتسبه بغير جهده الخاص فدخل ذلك في مجال الشبهات.