قصة عزل الفاروق لخالد بن الوليد رضي الله عنه
****************************************
وجد أعداء الإسلام في سعة خيالهم وشدة حقدهم مجالاً واسعاً لتصيد الروايات التي تظهر صحابة رسول الله في مظهر مشين ، فإذا لم يجدوا شفاء نفوسهم ، اختلقوا ما ظنوه يجوز على عقول القارئين ، لكي يصبح أساساً ثابتاً لما يتناقله الرواة وتسطره كتب المؤلفين وقد تعرَّض كل من عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما لمفتريات أعداء الإسلام الذين حاولوا تشويه صفحات تاريخهما المجيد ووقفوا كثيراً عند أسباب عزل عمر لخالد بن الوليد رضي الله عنهم وألصقوا التهم الباطلة بالرجلين العظيمين وأتوا بروايات لا تقوم على أساس عند المناقشة، ولا تقوم على البرهان أمام التحقيق العلمي النزيه.
وإليك قصة عزل خالد بن الوليد على حقيقتها بدون لف أو تزوير للحقائق ، فقد مرّ عزل خالد بن الوليد بمرحلتين ، وكان لهذا العزل أسباب موضوعية.
***********************************************************************
العزل الأول
========
عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خالد بن الوليد في المرة الأولى عن القيادة العامة وإمارة الأمراء بالشام ، وكانت هذه المرة في السنة الثالثة عشر من الهجرة غداة تولي عمر الخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق وسبب هذا العزل اختلاف منهج الصدّيق عن الفاروق في التعامل مع الأمراء والولاة.
فالصديق كان من سنته مع عماله وأمراء عمله أن يترك لهم حرية التصرف كاملة في حدود النظام العام للدولة مشروطاً ذلك بتحقيق العدل كاملاً بين الأفراد والجماعات، ثم لا يبالي أن يكون لواء العدل منشوراً بيده أو بيد عماله وولاته ، فللوالي حق يستمده من سلطان الخلافة في تدبير أمر ولايته دون رجوع في الجزئيات إلى أمر الخليفة ، وكان أبو بكر لا يرى أن يكسر على الولاة سلطانهم في مال أو غيره ما دام العدل قائماً في رعيتهم ، وكان الفاروق قد أشار على الصديق بأن يكتب لخالد رضي الله عنهم جميعاً: أن لا يعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمره ، فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك ، فكتب إليه خالد: إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك وعملك، فأشار عليه عمر بعزله ، ولكنّ الصديق أقرّ خالداً على عمله.
ولما تولى الفاروق الخلافة ، كان يرى أنه يجب على الخليفة أن يحدد لأمرائه وولاته طريقة سيرهم في حكم ولاياتهم ويحتم عليهم أن يردوا إليه ما يحدث حتى يكون هو الذي ينظر فيه ثم يأمرهم بأمره ، وعليهم التنفيذ ، لأنه يرى أن الخليفة مسؤول عن عمله وعن عمل ولاته في الرعية مسؤولية لا يرفعها عنه أنه اجتهد في اختيار الوالي.
فلما تولى الخلافة خطب الناس ، فقال: إن الله ابتلاكم بي ، وابتلاني بكم ، وأبقاني بعد صاحبي فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني ، ولا يتغيب عني فآلوا فيه عن الجزء والأمانة ، ولئن أحسن الولاة لأحسنن إليهم ، ولئن أساؤوا لأنكلن بهم ، وكان يقول: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ، ثم أمرته بالعدل ، أكنت قضيت ما علي؟ قالوا: نعم. قال: لا ، حتى أنظر في عمله ، أعمل بما أمرته أم لا؟
فعندما تولى الفاروق الخلافة أراد أن يعدل بولاة أبي بكر رضي الله عنه إلى منهجه وسيرته ، فرضي بعضهم وأبى آخرون وكان ممن أبى عليه ذلك خالد بن الوليد.
فعن مالك بن أنس : أن عمر لما ولي الخلافة كتب إلى خالد : ألا تعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمري ، فكتب إليه خالد : إما أن تدعني وعملي ، وإلا فشأنك بعملك ، فقال عمر: ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفذه ، فعزله ، ثم كان يدعوه إلى العمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ما شاء فيأبى عليه.
فعزل عمر خالداً من وجهة سياسة الحكم وحق الحاكم في تصريف شؤون الدولة ومسؤوليته عنها ، وطبيعي أن يقع كل يوم مثله في الحياة ، ولا يبدو فيه شيء غريب يحتاج إلى بيان أسباب تتجاذبها روايات وآراء ، وميول وأهواء ونزعات ، فعمر بن الخطاب خليفة المسلمين في عصر كان الناس فيه ناساً لا يزالون يستروحون روح النبوة له من الحقوق الأولية أن يختار من الولاة والقادة من ينسجم معه في سياسته ومذهبه في الحكم ليعمل في سلطانه ما دامت الأمة غنية بالكفايات الراجحة ، فليس لعامل ولا قائد أن يتأبد في منصبه ، ولا سيما إذا اختلفت مناهج السياسة بين الحاكم والولاة ما كان هناك من يغني غناءه ويجزي عنه.
وقد أثبت الواقع التاريخي أن عمر رضي الله عنه كان موفقاً أتم التوفيق وقد نجح في سياسته هذه نجاحاً منقطع النظير ، فعزل وولى ، فلم يكن من ولاّه أقل كفاية ممن عزله ، ومرد ذلك لروح التربية الإسلامية التي قامت على أن تضمن دائماً للأمة رصيداً مذخوراً من البطولة والكفاية السياسية الفاضلة.
وقد استقبل خالد هذا العزل بدون اعتراض وظل رضي الله عنه تحت قيادة أبي عبيدة رضي الله عنه حتى فتح الله عليه قنسرين فولاه أبو عبيدة عليها ، وكتب إلى أمير المؤمنين يصف له الفتح وبلاء خالد فيه ، فقال عمر قولته المشهورة: "أمّر خالد نفسه ، رحم الله أبا بكر ، هو كان أعلم بالرجال مني" ، ويعني عمر بمقولته هذه أن خالداً فيما أتى به من أفانين الشجاعة وضروب البطولة قد وضع نفسه في موضعها الذي ألفته في المواقع الخطيرة من الإقدام والمخاطرة ، وكأنما يعني عمر بذلك أن استمساك أبي بكر بخالد وعدم موافقته على عزله برغم الإلحاح عليه إنما كان عن يقين في مقدرة خالد وعبقريته العسكرية التي لا يغني غناءه فيها إلا آحاد الأفذاذ من أبطال الأمم.
ويحفظ لنا التاريخ ما قاله أبو عبيدة في مواساة خالد عند عزله: ".. وما سلطان الدنيا أريد ، وما للدنيا أعمل ، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع ، وإنما نحن أخوان وقوّام بأمر الله عز وجل ، وما يضير الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ودنياه ، بل يعلم الوالي أنه يكاد يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما تعرض من الهلكة إلا من عصم الله عز وجل ، وقليل ما هم"ا
وعندما طلب أبو عبيدة من خالد أن ينفذ مهمة قتالية تحت إمرته ، أجابه خالد قائلاً: أنا لها إن شاء الله تعالى وما كنت أنتظر إلا أن تأمرني ، فقال أبو عبيدة: استحيت منك يا أبا سليمان. فقال خالد: والله لو أمر علي طفل صغير لأطيعن له ، فكيف أخالفك وأنت أقدم مني إيماناً وأسبق إسلاماً ، سبقت بإسلامك مع السابقين وأسرعت بإيمانك مع المسارعين ، وسماك رسول الله بالأمين فكيف ألحقك وأنال درجتك والآن أشهدك أني قد جعلت نفسي حبساً في سبيل الله تعالى ولا أخالفك أبداً ، ولا وليت إمارة بعدها أبداً.
ولم يكتف خالد بذلك فحسب بل اتبع قوله بالفعل وقام على الفور بتنفيذ المهمة المطلوبة منه ، ويظهر بوضوح من قول خالد وتصرفه هذا أن الوازع الديني والأخلاقي كان مهيمناً على تصرفات خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهم وقد بقي خالد محافظاً على مبدأ طاعة الخليفة والوالي بالرغم من أن حالته الشخصية قد تغيرت من حاكم إلى محكوم بسبب عزله عن قيادة الجيوش.
إن عزل خالد في هذه المرة (الأولى) ، لم يكن عن شك من الخليفة ولا عن ضغائن جاهلية ، ولا عن اتهامه بانتهاك حرمات الشريعة ولا عن طعن في تقوى وعدل خالد ، ولكن كان هناك منهجان لرجلين عظيمين ، وشخصيتين قويتين كان يرى كل منهما ضرورة تطبيق منهجه، فإذ كان لابد لأحدهما أن يتنحى فلابد أن يتنحى أمير الجيوش لأمير المؤمنين ؛ من غير عناد ولا حقد وضغينة.
***********************************************************************
العزل الثاني
=======
وفي (قنسرين) جاء العزل الثاني لخالد ، وذلك في السنة السابعة عشرة ، فقد بلغ أمير المؤمنين أن خالداً وعياض بن غنم أدربا في بلاد الروم وتوغلا في دروبهما ورجعا بغنائم عظيمة ، وأن رجالاً من أهل الآفاق قصدوا خالداً لمعروفه منهم الأشعث بن قيس الكندي فأجازه خالد بعشرة آلاف ، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله ، فكتب عمر إلى قائده العام أبي عبيدة يأمره بالتحقيق مع خالد في مصدر المال الذي أجاز منه الأشعث تلك الإجازة الغامرة ، وعزله عن العمل في الجيش إطلاقاً واستقدمه المدينة ، وتمّ استجواب خالد وقد تم استجواب خالد بحضور أبي عبيدة وترك بريد الخلافة يتولى التحقيق وترك إلى مولى أبي بكر يقوم بالتنفيذ ، وانتهى الأمر ببراءة خالد أن يكون مدّ يده إلى غنائم المسلمين فأجاز منها بعشر آلاف ، ولما علم خالد بعزله ودّع أهل الشام ، فكان أقصى ما سمحت به نفسه من إظهار أسفه على هذا العزل الذي فرق بين القائد وجنوده أن قال للناس: إن أمير المؤمنين استعملني على الشام حتى إذا كانت بثنية ، وعسلاً عزلني فقام إليه رجل فقال: اصبر أيها الأمير ، فإنها الفتنة ، فقال خالد: أما
وابن الخطاب حي فلا ، وهذا لون من الإيمان القاهر الغلاب ، لم يرزقه إلا المصطفون من أخصاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: فأية قوة روحية سيطرت على أعصاب خالد في الموقف الخطير؟ وأي إلهام ألقي على لسان خالد ذلك الرد الهادئ الحكيم.
سكن الناس وهدأت نفوسهم بعد أن سمعوا كلمة خالد في توطيد قواعد الخلافة العمرية ، وعرفوا أن قائدهم المعزول ليس من طراز الرجال الذين يبنون عروش عظمتهم على أشلاء الفتن والثورات الهدّامة ، وإنما هو من أولئك الرجال الذين خلقوا للبناء والتشييد ، فإن أرادتهم الحياة على هدم ما بنوا تساموا بأنفسهم أن يذلها الغرور المفتون.
ورحل خالد إلى المدينة فقدمها حتى لقي أمير المؤمنين.
فقال عمر متمتلاً: صنعت فلم يصنع كصنعك صانع ، وما يصنع الأقوام فالله يَصنعُ
وقال خالد لعمر: لقد شكوتك إلى المسلمين ، وبالله إنك في أمري غير مُجمل يا عمر
فقال عمر: من أين هذا الثراء؟
قال: من الأنفال والسُّهمان ، ما زاد على الستين ألفاً فلك.
فقوم عمر عروضه فخرجت إليه عشرون ألفاً ، فأدخلها بيت المال.
ثم قال: يا خالد ، والله إنك علي لكريم ، وإنك إلي لحبيب ، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء.
وكتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدًا عن سُخطة ولا خيانة ، ولكن الناس فتنوا به ، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به ، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع ، وألا يكونوا بعرض فتنة