مجلس الشوى واختيار خليفة للمسلمين من بعد الفاروق
ابتكاره طريقة جديدة في اختيار الخليفة من بعده
===========================
استمر اهتمام الفاروق عمر رضي الله عنه بوحدة الأمة ومستقبلها ، حتى اللحظات الأخيرة من حياته ، رغم ما كان يعانيه من آلام جراحاته البالغة ، وهي بلا شك لحظات خالدة ، تجلى فيها إيمان الفاروق العميق وإخلاصه وإيثاره.
وقد استطاع الفاروق في تلك اللحظات الحرجة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد وكانت دليلاً ملموساً ، ومعلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية.
لقد مضى قبله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف بعده أحداً بنص صريح ، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة ، ولما طلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت ، فكر في الأمر ملياً وقرر أن يسلك مسلكاً آخر يتناسب مع المقام ؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الناس وكلهم مقر بأفضلية أبي بكر وأسبقيته عليهم فاحتمال الخلاف كان نادراً وخصوصاً أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الأمة قولاً وفعلاً إلى أن أبا بكر أولى بالأمر من بعده ، والصدّيق لما استخلف عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأقدر وأفضل من يحمل المسؤولية بعده ، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة ولم يخالف رأيه أحد منهم ، وحصل الإجماع على بيعة عمر.
وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد تعتمد على جعل الشورى في عدد محصور ، فقد حصر ستة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم بدريون (شهدوا غزوة بدر) ، وكلهم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وكلهم يصلحون لتولي الأمر ولو أنهم يتفاوتون وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته ، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة وحدد الحكم في المجلس والمرجح إن تعادلت الأصوات ، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس وعقاب من يخالف أمر الجماعة ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد ، وهذا بيان ما أجمل في الفقرات السابقة :
أ- العدد الذي حدده للشورى وأسماؤهم
======================
أما العدد فهو ستة وهم : علي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعاً.
وترك سعيد بن زيد بن نفيل وهو من العشرة المبشرين بالجنة ، ولعله تركه لأنه من قبيلته بني عدي.
ب- طريقة انتخاب الخليفة
===============
أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم ويتشاوروا ، وفيهم عبد الله بن عمر يحضرهم مشيراً فقط وليس له من الأمر شيء ، ويصلي بالناس أثناء التشاور صهيب الرومي ، وأمر المقداد بن الأسود وأبا طلحة الأنصاري أن يرقبا سير الانتخابات.
جـ- مدة الانتخابات أو المشاورة
===================
حددها الفاروق رضي الله عنه بثلاثة أيام ؛ وهي فترة كافية وإن زادوا عليها فمعنى ذلك أن شقة الخلاف ستتسع ، ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير.
د- عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة
=======================
لقد أمرهم بالاجتماع والتشاور وحدّد لهم أنه إذا اجتمع خمسة منهم على رجل وأبى أحدهم فليضرب رأسه بالسيف وإن اجتمع أربعة وفرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما.
وهذه من الروايات التي لا تصح سنداً فهي من الغرائب التي ساقها أبو مخنف مخالفاً فيها النصوص الصحيحة وما عرف من سير الصحابة رضي الله عنهم، فما ذكره أبو مخنف من قول عمر لصهيب: وقم على رؤوسهم أي أهل الشورى فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان ، فاضرب رؤوسهما : فهذا قول منكر وكيف يقول عمر رضي الله عنه هذا وهو يعلم أنهم هم الصفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم وقدرهم.
والصحيح في هذا ما أخرجه ابن سعد بإسنادٍ رجاله ثقات أن عمر رضي الله عنه قال لصهيب: صل بالناس ثلاثاً وليخل هؤلاء الرهط في بيت فإذا اجتمعوا على رجل فمن خالفهم فاضربوا رأسه.
فعمر رضي الله عنه أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرهط (الجماعة) ويشق عصا المسلمين ويفرق بينهم ، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: من أتاكم وأمركم جميع ، على رجل واحد منكم يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم ؛ فاقتلوه / رواه مسلم
هـ- الحكم في حال الاختلاف
================
لقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس وأن ليس له من الأمر شيء ، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم فحكّموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له ، فليختاروا رجلاً منهم ، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، ووصف عبد الرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد فقال عنه: ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف مسدد رشيد له من الله حافظ فاسمعوا منه.
و- جماعة من جنود الله تراقب الانتخابات وتمنع الفوضى
================================
طلب عمر أبا طلحة الأنصاري وقال له: يا أبا طلحة إن الله عز وجل أعز الإسلام بكم فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم ، وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم.
هكذا ختم حياته رضي الله عنه ، ولم يشغله ما نزل به من البلاء ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين ، وأرسى نظاماً صالحاً للشورى لم يسبقه إليه أحد ، ولا يشك أن أصل الشورى مقرر في القرآن والسنة القولية والفعلية ، وقد عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر.
ولم يكن عمر مبتدعاً بالنسبة للأصل ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة وحصر عدد معين جعلها فيهم وهذا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصديق رضي الله عنه بل أول من فعل ذلك عمر ونعم ما فعل فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت.