كم أعشق الإسكندرية
ولكم يأسرني شتاؤها
تلك المدينة الساحرة التي أنشأها الإسكندر الأكبر سنة 332 ق.م عن طريق ردم ذلك الجزء من المياه الذي كان يفصل بين جزيرة ممتدة أمام الساحل الرئيسي تدعى "فاروس" بها ميناء عتيق، وقرية صغيرة تدعى "راكتوس" أو "راقودة" تحيط بها قرى صغيرة أخرى، واتخذها الإسكندر الأكبر وخلفاؤه عاصمة لمصر لما يقارب ألف سنة، حتى الفتح الإسلامي لمصر على يد سيدنا عمرو بن العاص سنة 641 م
مدينة تحمل في طياتها عبقا ساحرا من التاريخ الإنساني...
ولها في نفس معظم المصريين ذكريات خاصة
يكفيك أن تسير على الكورنيش فتنظر إلى أولئك الجالسين الشاردين يرنون بأبصارهم إلى البحر مترامي الأطراف ليجدد في نفوسهم شجون لها ذلك الألم اللذيذ الذي تعشقه النفس ويحلق بفكرهم في آفاق التأمل الساحرة
وكعادتي في كل عام ..ذهبت إلى الأسكندرية لأقضي ثلاثة أيام بمفردي في شتائها الأثير إلى نفسي..
وها أنذا في يومي الثالث والأخير في الإسكندرية وقد استيقظت مبكرا لكي أقضي يومي في قلعة قايتباي كما جرت بي العادة في كل عام..
قلعة قايتباي التي بناها السلطان الأشرف أبو النصر قايتباي على أنقاض فنار الإسكندرية العظيم عام 882هـ واستغرق بناؤها عامين كاملين..
ومع أن القلعة في حد ذاتها أثر تاريخي ومعماري مدهش..إلا أن مكانتها كانتت تتعدى ذلك في نفسي..
لي فيها ذكريات حفرت في شغاف قلبي مع زوجتي التي توفاها الله منذ ثلاث سنوات إثر صراع مرير مع المرض..
دخلت القلعة وسط زوارها القلائل في هذا الوقت من العام لأبدأ جولتي عاقدا النية أن استمتع بكل لحظة أقضيها فيها..
وبعد دقائق صعدت إلى الطابق الثاني من القلعة حيث قضيت وقتا رائعا بين بقايا ما أمكن إنتشاله من أسطول نابليون بونابرت في أبوقير..
ها هي ذي بقايا الأسطول العظيم الذي غزا بحورا وبحورا ورجفت لمرآه سواحل وشطآن.....
ماذا بقي منه؟؟
مجرد أشلاء تعرض في المتاحف...
أخذت أمشي بين الممرات المعقدة التي اعتدت أن أفقد الطريق فيها كثيرا كلما زرت القلعة وأنا أتطلع من النوافذ الحجرية حينا وإلى الآثار المعلقة حينا..
أي تلك الممرات أسلك؟؟ الممر الأيمن..حسنا ثم الأيسر فالأيمن فالأيسر..
ما هذا؟؟
ما هذه الغرفة؟؟
أنا متأكد بأني لم أرها من قبل..
ولكن كيف؟؟ لقد زرت المتحف عشرات المرات فكيف لم أر هذه الغرفة سابقا..
نظرت حولي علي أجد أحدا أسأله..ولكن ليس هناك سواي..
إذن سألقي نظرة سريعة ثم أنصرف فقد تأخرت على كل حال..
دخلت الغرفة في توجس..ولكن..
إنها فارغة..
ياللأسف..لقد توقعت أن أرى فيها شيئا لم أره من قبل..
فيها نافذة تطل على البحر ..
اقتربت من النافذة لألقي نظرة على ذلك المشهد الخلاب الذي أعشقه ... وقبل أن أصل إليها كدت أطير منها إذ تعثرت قدمي في شيء صلب على الأرض..
استعدت توازني أخيرا وأنا اتشبث بالحائط وقلبي يخفق في ذعر وأنا أتخيل نفسي محلقا من هذا الارتفاع لأهبط على صخور البحر ممزقا...
نظرت في غضب صبياني إلى ذلك الشيء الذي تعثرت فيه قدمي وانعقد حاجباي في استغراب..
حلقة معدنية صدئة متصلة بالأرض..
ولكن ما الغرض منها؟؟
لعلها وسيلة للتخلص من الزوار في أيام الزحام؟؟
ابتسمت في سخرية..
أمسكت الحلقة وشددتها تلقائيا..
ثم اتسعت عيناي في دهشة..
شددتها بكل قوتي فإذا بقطعة من الأرضية المثبتة فيها تلك الحلقة تتحرك بالفعل..
إذن أنا لم أكن واهما...
الآن أرى أمامي تلك الفجوة السحيقة..
اقتربت منها في خوف وحذر..
انحنيت على الأرض محاولا استكشاف ما بداخلها..
ولكن لم أجد سوى ظلام دامس..
مددت عنقي بحرص شديد بداخلها أكثر..
وفجأة..
قبض شيء ما على عنقي في قوة رهيبة وانتزعني من مكاني ليجذبني داخل الفجوة..
صرخت في رعب وأنا أسقط..
سقطت لمسافة قصيرة لا تتعدى الثلاثة أمتار ثم ارتطمت بشيء لين..
لم تؤثر في السقطة بقدر ما ترك الرعب أثرا غائرا في نفسي...
نهضت مسرعا لأنظر ما هذا الذي أمسك عنقي ليطوحني في هذه الفجوة...
الظلام الحالك هنا يجعل من العسير حتى أن أتبين يدي..
(( أخيررررررررا..زالت اللعنة))
عبارة ردد المكان صداها في قوة..
التفت بسرعة إلى مصدر ذلك الصوت المبحوح البشع لينتفض جسدي في ذعر وتنطلق مني صرخة رعب مدوية...
فذلك الذي رأيته كان يفوق كوابيسي شناعة...
سقطت أرضا وأنا أتراجع في رعب صارخا...
فعلى ضوء مشعل يحمله، رأيت رجلا أو بقايا رجل لو صح التعبير...
هل رأيت رجلا تساقط جلده ولحم وجهه وبعض أطرافه حتى ظهرت عظامه في أنحاء شتى من جسده...
تحرك خطوة نحوي لأسمع صوت اصطكاك العظام المخيف..
هذا لا يمكن أن يكون حقيقة..
أنا أحلم..
نعم الآن سوف أفيق يغمرني العرق وأحمد الله أني لا زلت راقدا في فراشي..
ولكن..
يقولون إن أشنع الكوابيس طرا هو ذلك الكابوس الذي لا تستيقظ منه..
هززت رأسي في قوة..
ضربت وجهي بكفي..
ثم اندفعت دموع الخوف لتغمر مقلتي..
هذا ليس كابوسا..ليس كابوسا..
ابتلعت ريقي المتحجر بصعوبة..
(( من أنت؟؟ وأين أنا؟؟)) قلتها بصوت مرتجف من بين دموعي وأسناني المصطكة...
تردد صوته المبحوح في المكان قائلا: (( أنت في فاروس العظيمة...أول بشري يدخلها منذ قروووون..
يالك من مجدود الحظ أن تسعفك الحياة تلك الفرصة النادرة لتراها قبل أن تزول))..
مجدود الحظ؟؟ مسخ ومخبول أيضا..
أي حظ هذا وأنا أنظر إلى وجهه الذي اقتنص ببشاعته من عمري سنين..
تراجعت إلى الوراء فقط ليقول لي: (( لا تتراجع أكثر وإلا ستسقط من تلة الموتى ولسوف تتأذى كثيرا أيها الضعيف))
نظرت تحتي..إذن لهذا لم تكن الأرض صلبة من تحتي..
أنا على تلة الموتى..
أطلقت صرخة فاقت كل صرخاتي رعبا وجسدي المصعوق يرتجف كورقة شجر في مهب الريح..
لقد رأيت بأم عيني كيف يمكن أن تجد تلة تسمى تلة الموتى وتتكون من الموتى حقيقة لا مجازا..
أعدادا هائلة من الجثث البالية مكدسة فوق بعضها لتكون تلة ترتفع عن الأرض ما يقارب السبعة أمتار..
بالفعل لقد كان المسخ دقيقا في كلماته..لو سقطت من هذا الارتفاع كنت سأتأذى بحق..
أشرت إليه بإصبع مرتجف مرددا: (( من أنت؟؟ من أنت؟؟))
زفر وهز رأسه في ضيق لأرى جزءا من لحم وجهه يسقط منسلخا..
سقط فكي السفلي في ذعر ودهشة..
قال: (( لا أدري إن كان من الحكمة أن أضيع وقتي وأن أحكي لك قصتنا ،أم أعطي الإذن لهم لكي يلتهموك ونكسر اللعنة ))..
نظرت خلفي..
رأيت مسوخ آخرين يحملون مشاعل ويتقدمون نحوي في تؤدة
وهمهمات غريبة تنطلق من أفواههم ...
ناهيك عن تلك الرائحة الكريهة المقززة الخانقة التي تملأ المكان وتكاد تقضي علي مختنقا...
إذن سيلتهمونني أيضا في النهاية..
نظرت إلى الفجوة التي سقطت منها...
لا أمل لي في الوصول إليها..
قلت من بين دموعي: ((من أنتم ؟؟ أرجوكم لا تؤذوني))
دوت ضحكة مريعة تليق بذلك المسخ الشاخص أمامي ثم قال: ((لا لن نؤذيك لا تخش شيئا...فقط سنريحك من هموم الحياة المقيتة))
ثم استطرد قائلا: (( ولكني مكافأة لك ونظير فك اللعنة عنا سأحكي لك قصتنا وأنفذ لك طلبك الأخير))..
تخشب واقفا وأشار إلى القادمين الجوعى فتوقفوا وسرت همهمات قوية فهمت أنها علامات تذمر واستياء..
قال: (( لقد فقدوا كل أخلاقهم..اللعنة عليكم..نكرم الضيف أولا ثم نلتهمه..ألم تتعلموا شيئا في المدارس اللعينة أيها الرعاع؟؟))
ثم نظر نحوي وابتسم