تاسعاً: أعماله في الخلافة :--
إن العصر الذي عاش فيه عمر بن عبد العزيز رحمه الله في قبيل خلافته
كان كما يصفه أحد الكتاب:" زمن قسوة من الأمراء "، كيف لا والحجاج
بالعراق، ومحمد بن يوسف باليمن ، وغيرهما بالحجاز وبمصر وبالمغرب، حتى قال
عمر:" امتلأت الأرض والله جوراً".
وكذلك فيه من الفساد أن راح كل قادر
على النهب ينتهب ما تصل إليه يداه، وغابت الأخلاق فشاع الترف والانحلال،
ووراء الفساد سار الخراب ، فأخذت الأزمات المالية بخناق الدولة ومحق
إنتاجها، وكان فيه تزييف لقيم الدين حتى إنه كان يلعن على المنابر بطل
الإسلام العظيم وابنه البار وإمامه الأواب ورابع الخلفاء وابن عم رسول
الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وساعد في هذا
التزييف شعراء العصر().
بدأ عمر بن عبد العزيز رحمه الله بتغيير
هذا الواقع إلى الصورة المثلى في ذهنه، فلما ولي بدأ بلحمته وأهل بيته،
فأخذ ما بأيديهم، وسمى أموالهم مظالم ، وهي الأموال الهائلة.. والثروات
العظيمة التي تملكها أسرته، وإخوته وحاشيته، وعزم على ردها إلى أصحابها إن
عرف أصحابها، أو إلى الخزانة العامة، وأن ينفذ على الجميع قانون " من أين
لك هذا "() وبدأ في ذلك بنفسه، فقد كان له عقارات أيام أسلافه من الخلفاء
فرأى أنه لم يكن لهم سلطة شرعية عليها ليعطوه إياها وأنها من أملاك الدولة
… وأحصى أملاكه فإذا هي كلها من عطايا الخلفاء ولم يجد إلا عيناً في
السويداء كان استنبطها من عطائه ـ والعطاء رواتب عامة تعطى للناس جميعاً
من بيت المال ـ وتوجه إلى أمراء البيت الأموي فجمعهم وحاول أن يعظهم
ويخوفهم الله، وبين لهم أن ليس لهم من الحق في أموال الخزانة العامة أكثر
مما للأعرابي في صحرائه، والراعي في جبله .. وأن ما بأيديهم من أموال
جمعوها من حرام ليس لهم إنما هو لله، وأرادهم على ردها فأبوا، ودعاهم مرة
أخرى إلى وليمة واستعمل أسلوباً آخر من اللين فلم يستجيبوا ، فلما عجزت
معهم أساليب اللين عمد إلى الشدة وأعلم أنه كل من كانت له مظلمة أو عدا
عليه أحد من هؤلاء فليتقدم بدعواه ، وألف لذلك محكمة خاصة ، وبدأ يجردهم
من هذه الثروات التي أخذوها بغير وجهها ويردها إلى أصحابها أو إلى الخزانة
العامة .
ووسطوا له عمة له كان يوقرها بنوا أمية لسنها وشرفها ،
فكلمته فقال : إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة ولم يبعثه
عذاباً، واختار له ما عنده ، فترك لهم نهراً ، شُرْبُهُم سواء ، ثم قام
أبو بكر فترك النهر على حاله ، ثم عمر فعمل عمل صاحبه ، ثم لم يزل يشتق
منه يزيد ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان حتى أفضى الأمر إليّ ، وقد
يبس النهر الأعظم ولن يروي أهله حتى يعود إلى ما كان … ودعا بجمر ودينار ،
فألقى الدينار في الجمر حتى إذا احمرّ أخذه بشيء وقرّبه إلى جلده ، وقال :
يا عمة أما تشفقين على ابن أخيك أن يكوى بهذا يوم القيامة ؟ قالت : إذن لا
تدعهم يسبونهم ، قال : ومن يسبهم؟! إنما يطالبونهم بحقوقهم ، فخرجت فقالت
: هذا ذنبكم لماذا زوجتم أباه بنت عمر بن الخطاب ، اصبروا فإنه لا يجير .
وتجرأ
عليه ابن للوليد فكتب إليه كتاباً شديد اللهجة أشبه بإعلان الثورة ، فغضب
عمر لله وقبض عليه وحاكمه بمحاكمة كانت تؤدي به إلى سيف الجلاد لولا أن
تاب وأناب .
وخضعوا جميعاً وردوا ما كان في أيديهم من الأموال …
واكتفوا بمرتباتهم الكثيرة التي كانوا يأخذونها من الخزانة ، ولكن عمر لم
يكتف وأمر بقطع هذه الرواتب وإعطائهم عطاء أمثالهم ، وأمرهم بالعمل كما
يعمل الناس ، وعم الأمن وهمدت الثورات ، وشملت السعادة الناس ، واختفت
مظاهر البذخ الفاحش ، ومظاهر الفقر المدقع ، وصارت هذه البلاد التي تمتد
من فرنسا إلى الصين تعيش بالحب والإخلاص والود ().
وأمر رحمه الله بعزل الولاة الظلمة ، وبدأ بالتغيير السريع الحاسم العميم الذي يجب أن يتم على مستوى الأمة في ذلك الوقت .
حاله مع أمور الخلافة :
وفي
اليوم التالي من خلافته رأى موكباً فخيماً من الجياد المطهمة يتوسطها فرس
زينت كالعروس ليمتطي الخليفة ظهرها البَذِخ ، فأمر بها إلى بيت مال
المسلمين ، ثم لما وصل إلى السرادق فإذا هو فتنة ولا كإيوان كسرى فأمر
بضمه لبيت المال ، ودعا بحصير ففرشه على الأرض ثم جلس فوقه ، ثم جيء
بالأردية المزركشة والطيلسانات الفاخرة التي هي ثياب الخليفة ، فأمر بها
إلى بيت المال ، ثم تعرض عليه الجواري ليختار منهن وصيفات قصر ، فيسألهن
عنها ولمن كانت وما بلدها فيردها إلى أرضها وذويها ().