بسم الله الرحمن الرحيم
الكولوسيوم .. حلبة الموت الروماني
عشرات الآلاف من البشر تجمعوا داخل ملعب دائري ضخم في قلب مدينة روما الايطالية و هم يهتفون و يصرخون تفاعلا مع وقائع المباراة التي تجري أمامهم , رجال و نساء من مختلف الطبقات تباينت ملامح وجوههم ما بين الفرح و الحزن و الغضب و ذلك تبعا لنتائج الفريق الذي يؤازروه و يشجعوه , لكن ما يجمع كل هؤلاء الأشخاص معا هو الشعور الغامر بالإثارة و الحماسة , و قد تظن عزيزي القارئ بأن ما يشاهده هذا الجمع الغفير هو مباراة لكرة القدم , لكنها للأسف ليست كذلك , فهي في الحقيقة مباراة دموية لقتل البشر و تقطيع أوصالهم وسط صرخات و هتافات الجماهير التي تحض اللاعبين على إزهاق الأرواح البشرية بدون رحمة , و العجيب أن بعض تلك الهتافات المتعطشة للدماء كانت تصدر عن أجمل و ارق حسناوات روما في ذلك الزمان.
خلال القرن الثالث قبل الميلاد و أثناء فترة الحروب البونية بين روما و قرطاج (1) ظهرت لعبة دموية عشقها الرومان القدماء إلى حد الجنون , كانوا خلالها ينزعون عن أسرى الحرب دروعهم ثم يعطوهم أسلحة بسيطة و يضعوهم في مواجهة مجموعة من الجنود الرومان المدججين بأمضى الأسلحة و أقوى الدروع , كانت العملية أشبه بالإعدام إذ إن التسليح غير المتكافئ كان يعني موت الأسرى لا محالة , و بمرور الزمن ابتكر الرومان أساليب دموية جديدة أضافوها إلى اللعبة فأخذوا يجبرون الأسرى على أن يقاتل احدهم الآخر في منازلات كانت الهزيمة فيها تعني الموت المحقق و أحيانا كانوا يضعون الأسرى المساكين في مواجهة مع الحيوانات المفترسة لتفتك بهم و تلتهمهم , و هكذا تحولت هذه المبارزات الوحشية إلى اللعبة الأكثر شعبية لدى الجماهير الرومانية القديمة فأصبح لها قوانينها و طقوسها و مقاتلوها المحترفون (Gladiator و تعني باللاتينية السياف) الذين كان يتم تدريبهم في مدارس خاصة من اجل تهيئتهم للقتال داخل حلبات الموت الرومانية.
بسبب الشعبية الكبيرة لحلبة الموت قام الرومان بتشييد حوالي 250 ملعبا مدرجا في أرجاء الإمبراطورية لكن ايا من هذه الملاعب لم تكن بعظمة و ضخامة الكولوسيوم (Colosseum ) الذي شرع الإمبراطور فيسبيان ببنائه عام 70 ميلادية و انتهى العمل فيه في عهد ابنه الإمبراطور تيتيوس عام 82 ميلادية , لقد كان بناءا فريدا من نوعه و عملا هندسيا رائعا لا يليق إلا بعاصمة الإمبراطورية الرومانية.
حلبة الكولوسيوم كانت بيضاوية الشكل بطول 87 متر و عرض 55 متر و ذات أرضية خشبية مغطاة بالرمال , تحت الحلبة كانت توجد مجموعة من الأنفاق و الدهاليز التي كان المقاتلين ينتظرون داخلها حتى يأتي دورهم للصعود إلى الحلبة كما كانت تحتوي على أقفاص لحفظ الحيوانات و زنزانات لحبس الأشخاص المحكومين بالموت و الذين كانوا يعدمون داخل حلبة الكولوسيوم , و كانت هذه الدهاليز ترتبط عن طريق مجموعة من الأنفاق ببعض الأبنية و المرافق خارج الملعب و لهذا السبب كانت هذه الدهاليز الخفية تستعمل أحيانا من قبل الإمبراطور كممر سري للدخول و الخروج من الملعب بدون علم الجمهور.
كانت الحلبة محاطة بجدار بعلو 4.5 متر يحتوي على عدة بوابات متصلة بالدهاليز و الإنفاق الموجودة تحت الحلبة و تستخدم لإدخال المقاتلين و الحيوانات , و إلى الأعلى من جدار الحلبة كانت تقع مدرجات الجماهير التي يعتقد بعض علماء الآثار أنها كانت تستوعب لحوالي ثمانين ألف متفرج و هو عدد كبير حتى في مقاييس ملاعب اليوم. المدرجات الداخلية للملعب تم تصميمها لاستيعاب المتفرجين حسب الرتبة و المقام , فالجزء الأقرب إلى الحلبة و الذي يتمتع بأفضل مجال للرؤية كانت فيه مقصورتان رئيسيتان مخصصتان للإمبراطور و حاشيته و عذراوات فيستا (1) و حول المقصورات الإمبراطورية كان يجلس أعضاء مجلس الشيوخ الروماني , أما النبلاء الرومان و الضباط ذوي الرتب العالية فكانوا يجلسون في حلقة المدرجات التي تلي حلقة الإمبراطور ثم تأتي بعدها حلقة كبيرة من المدرجات المخصصة للمواطنين الرومان العاديين و تتكون من قسمين احدهما للأغنياء و يقع إلى الأسفل و الثاني في الأعلى للفقراء , أما الحلقة الأخيرة من المدرجات فكانت تقع في أعلى الملعب و لا تحتوي على مصاطب للجلوس لأنها مخصصة للعبيد الذين كانوا يشاهدون المباريات وقوفا. كانت مدرجات الكولوسيوم تحتوي أيضا على أقسام وقواطع مخصصة لشرائح معينة من المجتمع فهناك قواطع للجنود و أخرى للمهندسين و غيرها للكهنة و الفلاسفة و المثقفين .. الخ , و كان الكولوسيوم مباحا لجميع أفراد الشعب باستثناء بعض الشرائح التي كان يحرم عليها دخوله مثل حفارو القبور و الممثلين و المقاتلين المتقاعدين.
الجزء الخارجي للكولوسيوم كان يتكون من جدار حجري ضخم بارتفاع 48 متر تم تشييده باستخدام الحجارة التي ربطت إلى بعضها عن طريق استعمال قطع معدنية تشبه الخطاف , و قد تم تزيين الجدار الخارجي بالأقواس الهندسية الجميلة و في قمته توجد زوائد حجرية كانت تستخدم لتثبيت مظلة الكولوسيوم , و هي مظلة نسيجية كبيرة يوجد في وسطها ثقب او فتحة كبيرة تقع فوق الحلبة مباشرة كانت تمد فوق الكولوسيوم لحماية المتفرجين من أشعة الشمس في الصيف و الأمطار في فصل الشتاء
كان الكولوسيوم يحتوي على 80 بوابة لدخول المتفرجين , 4 منها مخصصة للإمبراطور و حاشيته اما البقية فهي لعموم الناس , و قد راعى المهندس القديم في تصميمه للبوابات انسيابية الخروج و الدخول الى المدرجات لذلك تم وضع علامة و رقم لكل بوابة و كان المتفرج يعطى تذكرة على شكل قطعة فخارية ترشده إلى المكان المخصص لجلوسه.
ان ضخامة و فخامة الكولوسيوم تجعل كل من يراه يتساءل عن الكيفية التي تمكن بواسطتها القدماء من بناء ملعب كهذا يصعب تشييده حتى في عصرنا الحاضر ؟ و السر عزيزي القارئ يكمن في اختراع عرفه الرومان و استعملوه في تشييد اغلب مبانيهم العظيمة .. إنها الخرسانة الرومانية (Roman concrete ) او ما نسميه نحن اليوم بالكونكريت , و رغم ان الخرسانة الرومانية لم تكن تضاهي الخرسانة المسلحة المستعملة اليوم في تشييد المباني إلا أنها كانت في زمنها اختراعا ثوريا مكن الرومان من بناء الصروح العظيمة كالكولوسيوم و كتمثال الإمبراطور نيرون الذي كان مجاورا للكولوسيوم و يبلغ ارتفاعه 38 مترا , لكن المؤسف ان أسرار صناعة الخرسانة ضاعت مع سقوط الإمبراطورية الرومانية و لم يعرف العالم استعمالها في البناء مرة ثانية الا في القرن الثامن عشر الميلادي.
حلبة الكولوسيوم كانت مخصصة بالدرجة الأولى لإقامة منازلات المبارزة المميتة و يعتقد أن ما يقارب النصف مليون إنسان لفظوا أنفاسهم الأخيرة على أرضيتها الرملية , و يشكل أسرى الحروب و العبيد و الأشخاص المحكوم عليهم بالإعدام غالبية من قضوا نحبهم داخل الكولوسيوم , البعض منهم تدرب لفترة من الزمن داخل مدارس خاصة لتدريب المقاتلين و آخرون مثل الأشخاص المحكوم عليهم بالإعدام كان يؤتى بهم مباشرة إلى الحلبة و يلقى بهم إلى الحيوانات المفترسة كالأسود و النمور أو يجبرون على مقاتلة بعضهم حتى الموت و غالبا ما كانوا يسقطون قتلى بسرعة لأن معظمهم أناس عاديين لا يجيدون القتال و لكن في حالات نادرة تمكن البعض منهم من النجاة من الموت عن طريق القتال بشجاعة فتغلبوا على خصومهم و اكتسبوا عطف الجمهور الذي طالب بالإبقاء على حياتهم و تحولوا فيما بعد إلى مقاتلين محترفين.